النوبه هي الجنينه و الشبـــاك…بقلم الأديب يحيي مختار
بقلم:يحيي مختار
روايه”جبــال الكحـل”
الجنينه و الشباك بالنوبه القديمه هي قريتي التي وُلدت فيها 1936 بعد ثلاث سنوات من التعليه الثانيه لخزان أسوان و الذي أختزل مواسم العمل في الارض الي موسم واحد من ثلاثة اشهر،فكان علي الذين بقوا في القري بعد هجرة القادرين علي الكسب إلي الشمال ان يملاؤا الشهور التسعه بالغناء و الرقص و إقامة موالد أولياء الله الصالحين”سيدي كبير” و”الشيخ عبدالله” و”سيدي حسن أبو جلابيه” و ينشدون السفن في مدح رسوال الله عليه الصلاة و السلام و ان يحكي العجائز الحكاوي حول الكوانين وعلي المصاطب وكان علي النساء و الفتيات ان يغزلن الخوص أبراشا و أطباقا ملونه و يزين الدور بالرسوم و الزخارف يستوحين فيها جداريات المعابد و الكنائس القديمه و يلصقن علي جدران الواجهات اطباق الصيني المزركشه.
جئت إلي القاهره سنه 1943 في صحبة والدتي للحاق بوالدي الذي كان مقيما في حي العرب بالمعادي جنوب القاهره،جئت محملا برؤي ذلك العالم الجميل:النهر النوبي بعظمته وكبريائه و اندفاعه..غابات أشجار السنط علي الشاطئ الريان و أدغال النخيل الكثيفه بعراجين البلح كالثريات أو كشخوص غرقي يرفعون أيديهم طلبا للنجده عندما ترتفع مياه النهر وقت الدميره(الفيضان) وبعدها..المركب السابحه كالوز في النيل بأشرعتها البيضاء..و علي صواريها الاعلام الصغيره الملونه بالجلاجل النحاسيه بصلصلاتها مع ريح الجنوب الواهنه،الدور المتناثره في كل نجع بألوانها الزاهيه و رسوماتها البديعه تقف مزهوه علي طول الشاطئ تطل علي النيل تباركه و تتبرك به.السكون الشامل كان يلف الوجود كله،حتي أننا كنا نسمع ثرثرات الذين يديرون”الونسه”علي الشاطئ الآخر البعيد تحملها مياه النهر الساجي..هناك..كان الكون كله في ديمومه تسبيح و صلاه.
جئت حي العرب و لم أكن أعرف كلمه واحده عربيه..كانت غربة لغه و مكان هذا هو “بر مصر”.عالم غريب مختلف تماما ومغاير لكل ماعشته:ضجيج و زحام..عمائر شاهقه و سيارات مسرعه تنفث دخانا كثيفا،و عربات ترام تصدر صريرا عاليا مرعبا،وكارو وحناطير و دراجات..دنيا مفزعه ومخيفه،بشر مختلفوا السحن و الملابس يتحركون لاتعرف مقاصدهم و فيم يسرعون و يزعقون،أسقطت في هوه من البلبال و التوجس و الخوف و الوحده،اي حصار كان؟..بدا الامر بمثابة زلزال.
بدأت في تعلم مبادئ العربيه قراءه و كتابه علي يد شيخ يدعي “الشيخ إبراهيم أبو دراع” كان بذراع واحده..كان قاسيا و رهيبا..كاد يصرفني عن الدروس و الدراسه ثم ألتحقت بكُتًاب شيخاً ضريرا يدعي إبراهيم مطاوع..كان سمينآ جدا و بكرش ممتد أمامه بقيت في الكُتًاب لمدة عامين حفظت فيهما جزئئ عم و تبارك
تعلم العربيه الفصحي في الكُتًاب و علي يدي الشيخين و التعامل مع أقراني بلغه اخري هي العاميه في الحي و في المدرسه بعد ذلك كان تحديً الأول وكان بدء تجاوز الزلزال.
و لكن ماكان مربكا لي في أول الأمر أنني في البيت مع والدتي ووالدي و اقاربي نتحدث طوال النهار بالنوبيه و في الشارع بالعربيه العاميه و في المدرسه بالفصحي و ظلت هذه العوالم المختلفه متجاوره و متعايشه.
حقيقة أعاقتني النوبيه عن سرعة التقدم في العربيه و ان جعلتني احتفظ في أعماقي بعالمي القديم و ايقاع الحياه فيه و مغذيا وجداني من العلاقه الموصوله بالأهل في قرانا في الجنوب و في تجمعاتنا في الشمال من خلال الجمعيات و المقاهي النوبيه وباقي المناسبات من أعياد و أفراح و مآتم.
كانت صلتي الاولي بعالم القراءه بعيدا عن كتب المدرسه من خلال جريدة”الأهرام” و”المختار” من الريدرز دايجست”كان أبي مواظبا علي قراءتهما و كان يختبر مدي تقدمي في الدراسه و تعلم العربيه بأن أقرا ه الجريده و فقرات مما هو منشور في مجلة “المختار” كنت اقرا دون أن أفهم كثيرا مما أقرا.
فمثلا لم أكن استطيع التفرقه بين كلمة”أعداء” و “أعضاء” و كانت محاولة الفهم هي التحدي الثاني،فهم الواقع الجديد الذي أعيشه و لا اعرف عمق دروبه وكذلك فهم العالم الواسع الذي تفتح القراءه نوافذه أمامي.
في المدرسه وقعت لي تجربه مثيره،مدرس اللغه العربيه كان ق أعد كراسه”التحضير” الخاصه به علي شكل كتاب مطبوع بغلاف ملون جميل تحت عنوان”التعبير الحديث” و وزعه علينا مقابل خمسة قروش..هذا التحول المثير العجيب لكراسة تتحول الي كتاب مطبوع متعدد النسخ يحمل اسم الاستاذ عبد الباسط بركات،هذا الاسم الذي أراه مجردا و مطبوعا،با لي ككل الاسماء التي أقراها علي باقي الكتب المدرسيه و علي صفحات الاهرام و المختار،هذا الاسم يتجسد دونهم جميعا في عبد الباسط بركات الذي اراه و اعرفه و انا لم أر الاخرين و لا أعرفهم و لكنهم يأتون الي من خلال كتبهم بدا لي الامر اشبه بالسحر.تكون لدي رغبه قويه و عارمه لان أضع أنا أيضا كتابا.
لم أكن أعرف ماهي المطبعه و كيف تطبع الكتب و الصحف و لأنني لم أنشا في المدينه او حتي في قريه من قري الشمال فظللت في قريتي غفلا لم تتسرب إلي معلومات تكمل او تضئ لي ايه معارف عن الحياه،فظلت الاشياء محجوبه عني باقيه في منطقه من مناطق الظل..و في الشمال بدأت تهطل علي جذاذات متفرقه كل لحظه بدفقات من المعارف الجديده حتي كانت كالسيل، و بدأت أُمارس في وحدتي لعبة تركيب هذه المتفرقات في سياقات أفهمها.
بدأت أمتلك أشياء جديده كل يوم لتضاف إلي ماكنت أعرفه من عالمي القديم، حيث كانت الاشياء قريبه جدا،أوراق الشجر و روائحها بدء نمو النبات عندما يشرع في شق التربه،الرمال..الزلط..الطمي و رائحته..الماء و النهر و الموج..اعشاش العصافير..الحيوانات،كل مايحتويه عالمي ذاك،و كان ثمة تحول مهم في حياتي عندما سكن ابن خالي محمد الماوردي بجوارنا منتقلا من حي المناصره في قلب القاهره،علي يديه تعلمت قراءة روايات الجيب و بقدر ما بهرني ذكاء شرلوك هولمز و حبكة روايات”أجاثا كريستي” فإن روايات “أرسين لوبين” ملكت علي نفسي،هذا البطل الذي يعرض نفسه للخطر من أجل ان يأخذ من القادرين ليعطي الفقراء محولا قبح السرقه من الوجهه الأخلاقيه و الدينيه إلي عمل مشروع يتعاطف القارئ معه،
لقد سلم “موريس لبلان” بأن هناك ظلما واقعا وقائما في العالم،إن هذا الحس الانساني الرهيف و الذي يشكل الخلفيه الشفيفه لكل روايات البوليسيه المحبوكه و المشوقيه أسرتني في سنوات مراهقتي،كان فهما ساذجا للعداله و لكنه عمق وعيي بما يكابده أهلي في قريتي الفقيره و جيراني حيث أقطن و اشعرني بمدي حاجة كل انسان للمساعده،حتي أولئك الذين يبدون أقوياء،أستقر في يقيني ان كل انسان في هذا العصر في مسيس الحاجه للمساعده و المسانده،
وبعد سنوات تعمق هذا الإحساس و نضج في رؤيه أكثر أتساعا بعد إلتحاقي بقسم الصحافه بجامعة القاهره حيث انفتحت في قراءاتي في مجالات أخري غير الأدب في الفلسفه و التاريخ و تعرفت علي الفكر الماركسي و درست كتابات ماركس و انجلز و فيورباخ و غيرهم و وجدت الاشتراكيه العلميه صدي عميقا لها في نفسي و كان المناخ الذي ساد مصر في الخمسينات بشعارات ثورة يوليه و الإصلاح الزراعي ثم التأميمات و الاقتصاد المخطط، و شعارات الاشتراكيه العربيه و إذابة الفوارق بين الطبقات و مناهضة الاستعمار و الاحلاف العسكريه ماجعلت نظرتي للحياه تختلف و لينمو في داخلي الحس الطبقي، مما جعل زاوية الرؤيه عندي تنفرج لتكون هناك رؤيه شموليه لحركة الإنسان في الوجود.
و هكذا أوصلتني روايات الجيب إلي شاطئ اخر ،لتكون بدايىة دخولي إلي عالم القراءه الجاده الرحبه بعدما رسخت عادة القراءه:روايات الهلال ذلك الانجاز الرائع لجورجي زيدان، ثم سلسلة “كتابي” لحلمي مراد و التي صدرت في صورة شيقه جذابه،عمقت حبي للقراءه و فتحت لي آفاقا أخري واسع نحو التعرف علي ابداعات الثقافات الاخري و خاصة الغربيه ثم أردف السلسله بسلسله أخري هي “مطبوعات كتابي” خصصها للأعمال الكامله لروائع الروايات العالميه و عرفت الطريق الي دار الكتب في ميدان باب الخلق بعد معرفتي الدقيقه بسور الازبكيه و انفتحت امامي عوالم مثره و جديده متنوعه،
و قرأت بنهم شديد في شتي فروع المعرفه من فلسفه و تاريخ و نقد و قصص، كنت متعطشا..قرأت لمعظم الكتاب المصريين بلا استثناء،الكبير و الصغير و القديم و الجديد،تأثرت جدا بعالم الفقراء و المهمشين عند طه حسين “المعذبون في الارض” و توفيق الحكيم في عودة الروح و في مسرحياته بجوار الساحر المعجز، كما دخلت عالم استاذنا العظيم نجيب محفوظ و يحيي حقي الفنان الكبير و الذين احدثا انقلابا كاملا في اللغه و هي من أعظم الانجازات إضافه الي ابداعهما الروائئ و القصصي و لتقترب اعمالهما مع يوسف إدريس عبقري القصه القصيره مع أعمال الكتاب الاوروبين و حيث كان لهم الفضل في ان يكونوا مقدمه طبيعيه لأجوس في عالم الكتاب الاوروبين و الروس.
وكان تأثري شديدا بتشيكوف و ديستوفسكي اللذين قرأت أعمالهما الكامله اكثر من مره و مازلت،لقد غرقت في عالم شديد الخصوبه و الانسانيه و وقعت في اسرهما بالرغم من اختلاف رؤيتهما.
كما كان تأثري شديدا و مازال بوليم فوكنر في روايات الرئيسيه الثلاث:”الصخب و العنف” و “ستاروس” و”قداس الراهبه”. “يوكناباتوفا” هذا المكان الموجود بالخيال بلا وجود،مكان اسطوري اصبح واقعيا بالابداع،هذه المقاطعه الخياليه التي خلقها فوكنر ليجري عليها احداث رواياته لتشغي بالحياه و الحركه..
هذه المقاطعه استدعت عني قريتي “الجنينه و الشباك” في النوبه القديمه،التي كانت موجوده بالفعل لابالخيال في أعماقي،عزمت ان توجد بالفعل و بالقوه ليحقق وجودا كاملا و واقعيا من جديد..و كان ذلك طريقا لان ادرك ان تجربة الانسان النوبي تختلف عن ايه تجربه أخري،فبلاد النوبه في اقصي جنوب مصر اصبحت تحت مياه بحيرة السد العالي،ليست اطلالا دارسه يمكن العوده اليها كما كان يعود العربي القديم إلي مرابط القبيله بعد ارتحالها،انها مكان لايمكن ان يُستعاد في الواقع و لكن الحنين و التذكر و الامساك به كتابة بعد تبدده،
استعادته في الجغرافيا كما كان في التاريخ،اصبح همي الخاص انقاذ الذاكره النوبيه لكي لاتغرق في مياه البحيره مع الوجود الذي غرق فيها،مدركا ان يدوم هذا الخيط النوبي الاصيل بخصوصيته وتفرده داخل نسيج الوطن لانه منه و هو احد مكوناته يمده بنسج الاستمرار و التواصل حائلا دون انقطاع تاريخ مصر في حقبه مهمه من وجوده و الذي تحمله النوبه في اعماقها منذ بدء نبض الحياه في الكون عند ضفاف النيل،تحمل في أعماقها العصر الفرعوني و المسيحي و الروماني و الاسلامي..استمرار النوبه هو بقاء هذا الخيط الخاص و العام في مكونات الوطن يثريه و يغنيه يزيده قوه ،يضيف اليه و يأخذ منه و لكي لا يكون جيلنا او عصرنا هو عصر اندثارالنوبه التي ظلت باقيه تقاوم الدهر منذ اجدادنا الفراعنه حتي اليوم،لن يكون هذا العصر وصمة لنا جميعا.
ان ماحدث لبلاد النوبه هو تغير كوني،و لن اقول ان النوبه أصبحت كقارة أطلنتس المفقوده،فمازال البشر الذي استوطنوا النوبه منذ بداية الخلق موجودين يحملون في أعماقهم نسغ الحياه القديمه التي لم تختلف كثيرا عما كانت عليه منذ بدأ الانسان الاول حياته في مدارج طفولته في ذلك العصر القديم ادواته و طرائق عيشه عزلة المكان الذي لم تخترقه الآله..اللغه الخاصه و التي هي امتداد طبيعي للغة الانسان المصري القديم، والتي لم تستطع اللغه العربيه القضاء عليها كما فعلت في لغات اخري كثيره فمازال الانسان النوبي في مجتمعه سواء في المهجر الجديد او داخل اسرته في بيته في المدينه يعبر عن نفسه بعد،اغانيه و افراحه عدودة الموت و حكاويه و طرفه، و مازالت هذه اللغه حيه تحمل تراثا وقيما و عادات شديدة الخصويه،مرتبطه بالنيل الذي كان يُعبد و مازال النوبي يقدسه..يحبه و يخشاه..لايلوثه و لايجعل شيئا يحجب عنه.إنها منظومه كامله وتجربه بشريه فريده لم يلتفت إليها و لم يعتن بها احد و لم يعيها الا من عاشها.
السينما المصريه و المسرح و اخيرا التلفزيون لم يقدم الانسان النوبي_وهي من اخطر ادوات التعبير_ الا علي شكل خادم اسمر او أسود يتمنطق حزاما احمر و يضع علي راسه طربوشا احمر و ينطق العربيه بشكل مضحك،ليس هذا هو النوبي ابن الحضاره العريقه و صانعها،
تمام مثلما يقدمون ابناء الصعيد في بعض المسلسلات.و اذا كنت احاول ان استعيد المكان الاول الطفولي و فضاءه،ان استعيد الهارب المتبدد و ماقوضه الزمن فإن نظرتي لتراث أهلي النادر و الذي هبت شعوب العالم لانقاذه و المحافظه عليه من الغرق و الاندثار فأقامت له متحفا من خلال اليونسكو،فإن السؤال مازال يلح علي:
أين مكاننا و نحن الذين ظللنا حراسا لهذه الكنوز خلال الحقب الطويله؟
في تقديري ان الادب النوبي ينبغي عليه ان يعبر عن هذه التجربه الإنسانيه و عن معاناة الانسان المصري الذي اُقتلع من جذوره في تلك البقعه من ارض الوطن.لم تتعرض طائفه من البشر_في حدود علمي_ لنا تعرض له النوبي والكاتب اذ يقبض علي هذه الجمره المتقده إنما يعرض لها من خلال تجربته التي عاشها هناك في طفولته و صباه و شبابه، ومن خلال ثقافته التي تشربها عبر لغه مغايره للغته الام،يقدم الكاتب النوبي ابداعه الخاص هذا لبني وطنه الذين لايعلمون شيئا عن هذه البقعه من ارض وطنهم،إن معاناة الانسان النوبي هئ جزء من معاناة الانسان المصري الذي يلحقه نفسه التهميش.
هناك أجيال سوف تاتي لاشك لم تعان من التهجير و لم تعش في النوبه القديمه و سيكون لها تجاربها الخاصه، و ان المراره التي يمكن ان تلحظ في بعض الكتابات النوبيه لاتمس السد و لكن تشير إلي الاهمال و سوء الإداره التي عولجت بها قضية الانسان هناك،تماما كما هو حادث في قضايا السيول في الجنوب في قنا و سوهاج و غيرهما،مثلها في انهيارات المنازل و العمارات في الزلازل و نحن جميعا خضنا معركه بناء السد الذي كان و لايزال لخير مصر كلها و الذي خضنا حرب 56 التي فُرضت علينا عقابا علي تصميمنا علي بنائه كضروره في مسيرة تنمية و تقدم بلادنا.
للكتابه النوبيه حصوصيه ترتكز علي خصوصية مكان ذي جفرافيا و طبيعة متفرده هي التي ابدعت معمارا خاصا للبيت النوبي في اصوله إلي العمار الفرعونيه و النيل لدي الكاتب النوبي مثل الحاره عند عميدنا و استاذا نجيب محفوظ،
النيل هذا المستكين المغلوب علي امره هنا في الشمال المروض و الملوث أمره في النوبه مختلف،هو هناك الافريقي الهادر،هو الملك الذي حمل موسي في مهده و نجاه من فرعون يسكنه القوم الاخيار الذين هم سلالة الاجداد الذي فروا في العصور السحيقه من الاضطهاد فرفعوا صفحته كما ترفع السجاده و اختفوا تحته…
النيل لايُدنس هناك..النيل علًم النوبي الجمال و الطهاره و الامانه، و لأنه محاط بهالات الاجلال و القداسه لذا تقف البيوت النوبيه في صفوف متراصه موازيه للنهر ليري النوبي في اصباحه و حين يمسي،كل ذلك خلق قيما و عادات و اعرافا و قصصا و حكايات و اساطير و حلق اشكالا حاصه من الفنون النوبيه.
النقوش و الأشغال اليدويه..الجداريات الخاصه في المعابد و الكنائس و التي تحمل اصداء الفن الفرعوني و القبطي و الوثني..العماره..كل هذا وغيره هي خصوصيه ثقافيه و حضاريه امتزجت في وجدان الانسان النوبي ضاربه في عمق جذوره المصريه الفرعونيه والقبطيه و الاسلاميه و من قبلهم الزنجيه.و مازال مبدعو النوبه باستمراريتهم يشكلون تيارا فاعلا و حضورا بليغا في الحاضر الثقافي باعتباره رائدا خصبا يعمق نهر الابداع المصري.
لم تكن الكتابه عن النوبه و ناسي في قرانا القديمه في البؤره الواعيه من توجهي،فقد كان بناء السد العالي حلما قوميا استبد بنا،وقع العدوان الثلاثي و انخرطت مع زملائي من طلاب جامعة القاهره في كتائب الجامعه لصد العدوان و ظلت النوبه متواريه خلف الإطار الذي يحركنا،و تحقق حلم بناء السد،و معه جاء الغرق و التهجير و كنا نعي اننا سُنقلتع من جذورنا و رغم ذلك قمنا قومة رجل واحد لبنائه و لندافع عن حقنا ف تطوير حياتنا نحن حفدة البناة العظام.
و لكني كرهت البيروقراطيه و الإهمال و عدم الإدراك الواعي و الإحساس بالمسئوليه القوميه و الإنسانيه التي عالجت أوضاعنا،هذه البيروقراطيه وقصور الرؤيه الذي تعامل مع الإنسان النوبي باعتباره كماً ينبغي نقله من مكان لمكان يحشره فيه. و يكون بذلك قد أدي ماعليه..لم تقف البيروقراطيه لتظر وتتأمل حياة هؤلاء الناس من وطنه،كيف يعيشون.ماهي عاداتهم و تقاليدهم و لم تحسن طبقات التاريخ الذي يحمله وجدانهم،لم يعرف معني و قيمة المتي و رفاتهم لم يعرفوا مدي قداسة قبور الموتي التي توارثها النوبي عن اجداده الفراعنه.
و ما رسخ في أعماقه من خشية اللعنه التي تصيب العابثين بها، ولذلك كان حارسا أمينا لها طوال حقب التاريخ ليكون هو الوحيد الوفي الأمين لأجداده الفراعنه فلم ينهبوا القبور و لاتاجروا في ممتلكاتهم و لم يدنسوا قداسة الموتي و لم يزعجوهم في مراقدهم الابديه.لم تفهم البيروقراطيه شيئا من ذلك فلم تفكر في ان ينقل النوبي معه رفات اهله،الذين شعروا انه يتركون للطمي و الاصداف و الاسماك في البحيره اجساد ذويهم متخلين عنهم و خائنين للعهد و هي نفس البيروقراطيه التي تعاملت مع العماره النوبيه بخصائصها الفريده بغلظه و غباء فدمرت جمالا نادرا و تاريخا معماريا اصيلا و موصلا بالعماره الفرعونيه لايمكن استعادتها.ربما بدا مااقوله رفاهيه و حلما ساذجا في الظروف التي كانت تمر بها البلاد و ترفا دافعه تعصب مقيت و لكن يدحض هذا ماحطمه ذلك في وجدان الانسان النوبي و قطع حقبه من تاريخه و ذاكرته مشوها هويته و مكوناته و وجوده الروحي.سالبا الذاكره المصريه في شمولها عنصرا مهما و اساسيا من مكوناتها.
و هنا اطرح سؤالا ساذجا بعد ان قُضي الامر.لماذا لم تنقل قرانا حول البحيره في مواقعها القديمه؟تماما مثلما كنا نزحف نحو التلال شرقا و غربا مع كل تعليه للخزان؟
النوبه انبعثت و طفت من الاعماق تطالبني بكتابتها بعد ان غرقت فكتاباتي الاولي لك لم تكن تحمل هذا الهم.فأول قصه نشرتها بإسم”البناء” في مجلة الجامعه كنت ادرس في قسم الصحافه بأداب القاهره.كان ذلك عام 1957 ولم يكن بها علاقه بالنوبه و قصه اخري هي “قطه من العصر المملوكي” عن النكسه نتدثره بالرمز.
نشرها لي الراحل الجميل عبد الفتاح الجمل بجريدة المساء عام 1969 و في نهاية عام 1970 كتبت”عروس النيل” أول قصه نوبيه بعد رواية الشمندوره للصديق الراحل محمد خليل قاسم و لكنها لم تنشر الا في يونيه 1973 في الملحق الادبي لمحلة الطليعه القاهريه و كان لتأخر نشرها لمدة ثلاث سنوات كامله مااصابني بالاحباط انا المُقل جدا في الكتابه،توقفت تماما ثم تحركت النوبه مره اخري في اعماقي فنشرت”حكايات للنسيان”في مجلة صباح الخير عام 1981..ثم قصه واقعيه نشرها لي الصديق الروائي جمال الغيطاني في صفحة الادب بالاخبار عام 1985 و ظلت مجموعتي الاولي في الخزانه سنوات دون نشرها و دون كتابات اخري و للمره الثانيه كان الفضل للصديق جمال الغيطاني الذي اشرف في فتره علي اصدارات إدارة الكتب و المكتبات بأخبار اليوم فصدرت المجموعه بعنوان القصه الاولي “عروس النيل” في اكتوبر 1990 لأحصل بها علي جائزة الدوله التشجيعيه عام1992..و هو جمال الذي زف إلي نبا الفوز بها وانا مغترب في البحرين و قبل حصولها علي جائزه كانت حافزا قويا لأنجز روايه قصيره في مجموعه”ماء الحياه” عن دار سعاد الصباح و كان ايضا الصديق جمال الغيطاني وراء نشرها_ثم اخيرا في مارس1997 صدرت مجموعتي الثالثه”كويلا” في اصوات ادبيه التي يرأس تحريرها الصديق محمد البساطي.
و في النهايه يهمني ان اقرر انه لايعنيني مطلقا اجري وراء موضات الابداع التي تفد الينا من ىليات وقع مغاير لحياتنا و متطلباتها .لايعنيني الحداثه او قضايا التجريب،كما يستفزني تخريب الثقافه و الابداع بالدعايه الاعلاميه،همي ان اصل الي ناسي..ان أعبر عنهم و عن معاناتهم كجزء من معاناة الشعب المصري. ان اعيد النوبه الي مكانها في الجغرافيا كما في التاريخ كما قلت،ان يعود المجتمع النوبي باصالته و زخمه الي مواقعه القديمه حول توشكي و باقي القري عن النيل مره اخري ليكون أكثر قدره علي إثراء الحياه المصريه ويواصل معها العطاء الانساني. و العمل الفني فعل في الواقع يتحقق بالقوه او بالوجود, ولولا الطابور الطويل من المبدعين و المفطرين العظام الذين قرأتهم فصاغوا وجداني و تكويني و اثروا طاقتي الروحيه فأعادوا ولادتي من جديد لما خرجت كتاباتي للوجود.
المصدر : نوبي انا