أسوان‏..‏ سمراء النيل ‏(3-6)‏ كركر جنة مهجورة علي أرض النوبة

كتبت:‏ منال عبيد

لابد أن تزوري قرية وادي كركر‏..‏ جملة تكررت كثيرا علي مسامعي أثناء زياراتي لقري النوبيين في محافظة أسوان‏,‏ قالوا إنها تختلف جدا عن باقي القري فهي نموذجية بناها الجيش علي الطراز النوبي علي مساحة‏400‏ فدان لتعويض آخر دفعة من الذين تم تهجيرهم سنة‏1963‏ واعتبروا وقتها من المغتربين لأنهم لم يكونوا مقيمين في قراهم وقت الحصر بل كانوا يعملون في محافظات أخري أو خارج مصر‏,‏ وتشتمل وادي كركر علي كل ما تحتاجه أي قرية بل مدينة من خدمات‏,‏ ومع ذلك فهي تكاد تكون مهجورة‏!!‏

في أحد الصباحات المبكرة استقللت تاكسي إلي وادي كركر التي تقع علي طريق أسوان أبو سمبل السياحي, وتبعد عن مدينة أسوان بنحو25 كيلو مترا وتعد قريبة من بحيرة ناصر حيث لا تبعد عنها بأكثر من5 كيلو مترات, وما أن اجتازت السيارة البوابة حديثة البناء للقرية حتي أدركت أن ما وصف أهل أسوان به القرية هو أقل من حقيقتها.

كومباوند عصري
تستقبلك القرية بالخضرة والأشجار تحيط بالطرق الواسعة المرصوفة, ويقع في مدخلها جامع كبير أنيق به دار مناسبات فخمة, وبجواره قسم شرطة صغير ثم مبني الوحدة المحلية, قطع صوت السيارة الهدوء الشديد الذي يخيم علي القرية الساكنة ومررت بجوار مدرسة جميلة المباني تصطف أمامها حافلات نظيفة تذكرك بمشهد المدارس الخاصة في العاصمة, وعلي بعد أمتار يقع مبني المستشفي العسكري الذي يبدو متكاملا لا يقل عن مستشفيات المدن الكبري, ومن بعيد تلمح النجيلة الخضراء لمركز شباب حديث, وعلي امتداد البصر تقبع البيوت الصغيرة ذات الطابق الواحد والقباب في نسق جميل تتزين كل مجموعة منها بلون موحد.. تمر لحظات تنسي فيها أنك في جنوب صعيد مصر وأنك بالتحديد في قرية نوبية, فالمشهد بأكمله يشبه أي كومباوند عصري في المدن الكبري.
أفيق من اندهاشي علي ملاحظة غريبة: لا يوجد بشر!.. أهبط من السيارة وأطرق أبواب بعض البيوت دون مجيب, أنظر حولي لعلي أجد عابرا أو مترجلا يحكي لي أسرار القرية المهجورة فلا أجد, حتي وقعت عيناي علي سيدة أربعينية بملامح صعيدية تسير وحيدة فأستوقفها, إنها سميرة التي تعمل موظفة بالوحدة المحلية, عرضت أن تصطحبني إلي بيتها وفي الطريق طرقنا باب منزل بعض أقاربها: البيت واسع مكون من الداخل من ثلاث غرف متوسطة المساحة, وحوش كبير مفتوح ملحق به حمام, مساحة البيت الكلية لا تقل عن240 مترا! رحبت بي صاحبة المنزل وابنتاها واشتكين جميعا من نقص الخدمات في القرية, قالت الأم المريضة إنها تضطر للذهاب إلي مدينة أسوان لتلقي العلاج لأن المستشفي العسكري يعمل به أطباء امتياز يفتقرون إلي الخبرة, وقالت ابنتها إن مواعيد الحافلات التي تربط القرية بأسوان قليلة مما يضطرها للانتظار أكثر من ساعتين كلما أرادت أن تقضي شأنا من المدينة أو تضطر لتأجير سيارة مقابل خمسين جنيها, وقالت الأخري إن القرية ليس بها محل بقالة أو بائعون وأن سيارة خضروات صغيرة تأتي صباح كل يوم ليشتري منها أهل القرية احتياجاتهم.

أسرار القرية المهجورة
وفي الطريق لبيت سميرة وجدت أخيرا مجموعة من الرجال يجلسون أمام أحد البيوت يستظلون بشجرة صغيرة, توقفت ودعوني لمعاينة بيوتهم والجلوس لتجاذب الحديث حول أكواب الشاي.. سألتهم عن صحة ما قرأته قبل مجيئي من أن سبب عزوف النوبيين عن الإقامة في وادي كركر هو مخالفة مبانيها لطبيعتهم وثقافتهم, خاصة أنني لاحظت عكس ذلك فبيوتها واسعة ذات حوش كبير وقباب تماثل ما تعودوا عليه.
قال صلاح حسن61 سنة موظف علي المعاش: لم أحصل علي هذا البيت كتعويض من الدولة التي خيرت المستحقين وقتها بين الحصول علي البيت أو الحصول علي75 ألف جنيه, لكنني اشتريته من صاحبه بعد أن تعرضت قريتي في السيل الريفي لأحداث الثأر الشهيرة وما خلفته من أوضاع غير آمنة, فجئت بأسرتي إلي وادي كركر أملا في حياة أفضل لكننا فوجئنا بالنقص الشديد في الخدمات رغم وجود المباني علي أحدث مستوي لكنها للأسف لا تعمل! فالمستشفي العسكري غير مجاني, صحيح أن ثمن الكشف عشرة جنيهات لكن العلاج أيضا غير مجاني وأغلب السكان لا يستطيعون دفع تكلفته, وأقرب بديل له هو مدينة أسوان.. أما خطوط الأتوبيس فهي عشرة مواعيد مقسمة علي اليوم بأكمله فلا نستطيع الاعتماد عليها, كما أن شبكات المحمول هنا ضعيفة جدا ولا تعمل أغلب الوقت فنشعر أننا مقطوعون بالإضافة إلي عدم قدرة الأبناء علي التحصيل الدراسي الذي أصبح أغلبه يعتمد علي الكمبيوتر, هذا غير التشققات الكبيرة التي حدثت في البيوت نتيجة عدم تنفيذها بشكل جيد من قبل الشركة المنفذة حيث قامت القوات المسلحة بتنفيذ جزء من البيوت وقامت شركة مقاولات بتنفيذ الجزء الآخر

تدخل جودة محمد55 سنة في الحوار مضيفا أعمل مديرا لوحدة تنمية المجتمع التابعة للتضامن الاجتماعي, وليس صحيحا أن النوبيين رفضوا تسلم البيوت هنا لعدم ملائمتها لطبيعتهم فقد تم تسليم1576 وحدة بالفعل ومع ذلك فهي جميعا مغلقة ما عدا نحو250 وحدة, ويعود ذلك لسبب غاية في الأهمية وهو أن الدولة تأخرت كثيرا في تعويض مستحقي هذه الوحدات لأنها اعتبرتهم مغتربين حيث كانوا يعملون خارج المحافظة وقت الحصر فأجلت تعويضهم لما يزيد علي نصف قرن اضطروا خلالها أن يسعوا وراء لقمة عيشهم فاستقروا في المحافظات المختلفة ومنهم من يعمل خارج مصر, وأصبح من الصعب جدا عودتهم للاستقرار في وادي كركر, أما السبب الثاني وهو الأهم فهو أن الدولة قامت بتعويض الشخص الذي كان يستحق في عام1963 والذي بطبيعة الحال أصبح له الآن أبناء وأحفاد يرثون جميعا هذا البيت الواحد, بعض هذه البيوت وصل عدد ورثتها إلي40 فردا فمن الذي سيحصل عليه منهم ؟! هذا غير أن الدولة وعدت السكان هنا بتعويضهم بأراض زراعية حتي تضمن لهم فرص عمل قريبة لكنها لم تنفذ هذا حتي الآن رغم وجود الأرض الزراعية المخصصة لنا علي بعد عدة أمتار ومعنا موافقات الجهات المختصة.. هذه هي الأسباب الحقيقية التي تبقي وادي كركر جنة بلا سكان

الإجابات في الوحدة المحلية
حملت شكاوي سكان وادي كركر وذهبت إلي الوحدة المحلية بالقرية, استقبلني رئيسها محمود سعد ببشاشة, عرضت عليه ما سمعته من الأهالي فأصر علي اصطحابي في جولة علي أرض الواقع يجيب خلالها علي أسئلتي.
وفي الطريق قال محمود سعد رئيس الوحدة المحلية: بالنسبة للخدمات نحن نعمل جاهدين علي تحسينها خاصة أن القرية بها كل الوحدات والخدمات اللازمة لكن تشغيلها في أكمل صورة يحتاج إلي حد أدني من الكثافة السكانية وهذا أمر معروف في أي مكان في الدنيا, ورغم أن عدد سكان القرية لا يتجاوز ألف شخص إلا أننا قمنا بتزويد خطوط المواصلات من ست إلي عشر رحلات في اليوم, كما خاطبنا شركات المحمول لتنفيذ أبراج لتقوية الخدمة, وجار حاليا تفعيل مشغل يتيح تدريب وتشغيل أبناء القرية..لكن علي الجانب الآخر لابد أن نعترف أن الدولة أنفقت المليارات لإنشاء هذه القري ليعمرها النوبيون وتكون تعويضا حقيقيا عما فقدوه ولم تدخر وسعا في توفير كل ما يحتاجونه, لكنها لم تجد منهم استجابة حيث تسلموا البيوت وأغلقوها! صحيح أن بعضهم قد ازداد عدده بما لا يتناسب مع الوحدة وعلي الدولة أن تعمل علي حل هذه المشكلة ببناء المزيد من الوحدات, لكن عليهم هم أيضا العودة لتعمير هذه البيوت خاصة أننا نعمل حاليا علي تحويل وادي كركر إلي منطقة جذب, وسأريكي ما حققناه حتي الآن في سبيل ذلك

موقف دولي ومزارع
عبرت سيارة رئيس الوحدة المحلية التي استقللتها معه بوابة القرية خروجا هذه المرة, وعلي بعد كيلو مترات قليلة منها رأيت بناء حديثا غاية في الأناقة, وممرات وقوف تظللها الأشجار الوارفة, ثم فندقا صغيرا يحتوي علي عدة غرف, وصف محلات متنوعة.. إنه موقف السودان الدولي الجديد, ميناء بري جاهز للافتتاح في الشهور المقبلة.
يقول سعد إن اختيار هذا المكان بديلا لموقف الأقاليم الحالي الذي يقع بقلب مدينة أسوان, سينشط وادي كركر ويجعلها منطقة جذب إذ ستمر بها كل التجارة البرية بين مصر والسودان, وربما تحولت بيوتها المغلقة إلي وحدات لاستضافة العابرين مما يعد مصدر دخل لأصحابها, بالإضافة إلي أن تشغيله سيتيح فرص عمل كثيرة أمام أبناء وادي كركر الذين يشكون حاليا من بعدها عن أماكن العمل.
سارت السيارة عدة كيلو مترات أخري حتي بدت ملامح واحة خضراء, إنها100 تم استصلاحها وزراعتها وريها من مياه بحيرة ناصر عن طريق محطة شرب كركر, فاخضرت وأثمرت وأنتجت الخضر والفاكهة التي كان في البداية يتم توزيع جزء منها مجانا علي أهالي وادي كركر, ومازالت حتي الآن تنقل إلي قريتهم بأسعار رمزية, هذا ما قاله محمود سعد وهو يشرح أنه تم بناء صوبات زراعية علي مساحة25 فدانا تنتج أجود أنواع الخضر والفاكهة التي تسد احتياجات أسوان, ولم يفته أن يشير أيضا إلي أن هذا المشروع الذي نفذته القوات المسلحة لصالح وزارة التعمير قدم أيضا فرص عمل لأبناء كركر حيث إن50% من العاملين به هم من أبنائها.
استوقفت واحدا من العمال الذي كان يقوم بقطف وتعبئة الثمار وسألته من أي القري هو, أجاب محمد أحمد34 سنة أنا أساسا من الدكة نصر النوبة, حاصل علي دبلوم تجارة ومتزوج وأعول طفلا, عملت طباخا في عدة منشآت سياحية لكن بعد أن تدهورت السياحة ظللت بلا عمل حتي التحقت بهذه المزرعة فانتقلت إلي وادي كركر منذ سنة للإقامة بها لأنها قريبة من مكان العمل, أعمل بيومية50 جنيها قد تبدو قليلة لكنها مقابل عدد ساعت عمل قليلة إذ أعمل في الجني والتعبئة من الصباح وحتي الواحدة ظهرا.

المصدر : الاهرام 

أسوان‏..‏ سمراء النيل ‏(2)

أسوان‏..‏ سمراء النيل ‏(1)