كتب : محمد سليم العوا الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
لما فتحت مصر، بعث عمرو بن العاص، عُقبة بن نافع الفهرى إلى بلاد النوبة ليدعو أهلها إلى الإسلام، فلقى من أهل النوبة قتالا شديدا، ورمى أهلُ النوبة المسلمين بالنَّبْل وكانوا فيه ذوى مهارة عالية فكثرت إصابات المسلمين، وفقد عدد منهم أعينهم، حتى أطلقوا على أهل النوبة رماة الحَدَقِِ لكثرة من أصيب من المسلمين، يومئذٍ، فى عينه.
وتوالت محاولات المسلمين لدخول النوبة، لكنها استعصت على الفتح نحو عشر سنين. ثم كانت ولاية عبدالله بن سعد بن أبى سرح لمصر فى عهد الخليفة الراشد الثالث، عثمان بن عفان فغزا النوبة وقاتل أهلها، حتى سألوه الصلح والموادعة، فأجابهم إلى هدنة اتُفِقَ فيها على أن يدفع أهل النوبة إلى المسلمين، ويدفع المسلمون إلى أهل النوبة، أموالا متقابلة فى كل سنة، وكان هذا الصلح فى رمضان سنة 31 من الهجرة وبه دخل الإسلام النوبة، فلم يمض إلا زمن قليل ليسلم أهل النوبة كلهم، وكان صلح عبدالله بن سعد بن أبى سرح مع أهلها فتحا حقيقيا أبقى من كل قتال سبقه بين النوبة وبين المسلمين.
وقد روى أن المسلمين لم يروا قوما أشد فى الحرب من أهل النوبة، ولا أمهر منهم فى الرمى. قال أحد المقاتلين فى حصار النوبة فى زمن عمر بن الخطاب: «لقد رأيت أحدهم يقول للمسلم أين تحب أن أضع سهمى منك؟ فربما عبث الفتى منا (أى من المسلمين) فقال فى مكان كذا، فلا يخطئه النوبى»(!)
وقد خرجوا يوما إلى المسلمين بالنبل وأراد المسلمون أن يحملوا عليهم حملة واحدة بالسيوف فما استطاعوا لكثرة ما كان أهل النوبة يرمون من النبل حتى فقئت مائة وخمسون عينا، وقال المسلمون ما لهؤلاء شىء أحسن من الصلح! إن سَلَبَهُم لقليل، وإن نكايتهم لشديدة. ولكن عمرو بن العاص لم يصالحهم، بل حاول المسلمون مرات أن يفتحوا بلادهم فلم يوفقوا، فلما كانت ولاية عبدالله بن سعد بن أبى سرح فى زمن عثمان بن عفان رضى الله عنه فصالحهم كما تقدم على ألا يقاتل المسلمون أهل النوبة ولا يقاتل أهلُ النوبة المسلمين وأن يتبادلوا الهدايا بقيمة متساوية فى كل سنة.
وأورد العلامة محمد حميد الله الحيدر آبادى رحمه الله نص المعاهدة بين عبدالله بن أبى سرح وبين أهل النوبة فى كتابه الفريد (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة)، ومما جاء فى هذه المعاهدة تحديد مساحة النوبة وأنها من جنوب أسوان إلى أرض علوة، وأن الأمان والهدنة يجريان بينهم وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر، وغيرهم من المسلمين وأهل الذمة، وأنهم آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لا يحاربهم المسلمون ولا يُعِدُّون لحربهم ولا يَغْزُونَهُم، وأن لكل من الفريقين أن يدخل بلد الآخر دون أن يقيم فيها، وأن على أهل النوبة حفظ من نزل بلدهم أو مر به من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنهم، وعليهم أن يحفظوا المسجد الذى أنشأه المسلمون فى مدينتهم ولا يمنعوا منه مصليا (وهو مسجد أنشأه بعض من كان يمر ببلاد النوبة للتجارة وغيرها فى غير أوقات الحرب بينهم وبين المسلمين، واتخذ مع الوقت مقرا لكل من يدخل من المسلمين بلاد النوبة). ثم ذكرت الوثيقة الأموال التى يتبادلها الطرفان فى أثناء سريان هذه الهدنة.
والأصل أن الهدنة مؤقتة وأنها قابلة للتجديد، لكن التاريخ لا يحدثنا بشىء عن تجديد العهد مع أهل النوبة، إذ إن الزمن لم يَطُلْ بهم حتى دخلوا فى الإسلام جميعا.
والثابت أن المسلمين صالحوا أهل النوبة على غير جزية، وإنما على هدايا يتبادلها الفريقان، بقيم متساوية، فى كل عام.
وهذه المعاهدة دليل على مرونة الأحكام الإسلامية فى التعامل مع غير المسلمين وأنه ليس هناك شكل واحد لا يتغير للمعاهدات معهم وإنما تتغير شروطها بحسب تغير الظروف والأحوال. ووجود المسجد فى بلاد النوبة، قبل الصلح بين المسلمين وبين أهلها دليل على أن المسلمين لم توقفهم العداوة، أو حال الحرب، عن العبور من أرض النوبة إلى ما وراءها من بلاد السودان، وأنهم آمنوا الغدر والخيانة من أهل النوبة الذين لاتزال جمهرتهم تشتهر بحسن الخلق والأمانة والوفاء، وكأن ذلك من ميراث الأجداد والآباء.
المصدر : الشروق