قد تتوقع وأنت تسير في شوارع مدريد أن تلاقيك الكلمات العربية أو المنتجات العربية أو الأماكن التي تحمل الطعم العربي، لكن ما لن تتوقعه أبداً هو أن يستقبلك معبد مصري يعود لألفي سنة قبل الميلاد. يستقبلك بمكانه الجديد يتعرف عليك من لغتك ومن لون بشرتك وينده عليك أن تأتي إليه، كغريبان يبحثان عن الوطن، هو يرى الوطن في بحة صوتك وفي الصحراء التي تسكن سعة عيونك وأنت ترى الوطن في حجارته ونقوشه وفي عظمته وتاريخه القديم.
إنه معبد دابود المصري الذي كان موجوداً في منطقة النوبة، والذي أصبح الآن سفيراً لحضارة مصر في إسبانيا. بني معبد دابود في النوبة في أوائل العصر البطلمي حينما قرر الملك إجغر بناء معبد خاص لعبادة الإله عامون واختار منطقة دابود الواقعة جانب أسوان على الضفة الغربية لنهر النيل. وقد بني بطريقة قريبة جداً لشكله الحالي الموضوع في مدريد مع اختلاف توزع البوابات.
لكن في عام 1960 كانت مناطق كبيرة من أسوان والنوبة قد تعرضت للغرق بشكل كامل بسبب فيضان نهر النيل المتكرر، وهذا ما دعا إلى بناء سد يحمي مصر كلها من خطر هذه الفيضانات، ولأجل هذا ولدت فكرة بناء السد العالي وقد تم بناؤه، ولكن كانت المشكلة الأساسية أمام الحكومة المصرية الآثار التي غمرتها المياه وخاصة أثناء بناء السد، وكان الخوف الشديد من أن تتعرض للغرق بشكل كامل وأن يصبح من المستحيل إنقاذها.
ووجدت الحكومة المصرية نفسها مضطرة لإرسال دعوات لكافة المنظمات الدولية التي تهتم بشؤون الآثار تستنجدها بإنقاذ آثار مصر الفريدة في العالم من الغرق. بالفعل لقد لبّت منظمة اليونسكو نداء الحكومة المصرية، كما لبت دول كثيرة مهتمة بالتراث الإنساني أو عاشقة لتراث مصر النداء وساهمت بشكل فعال في عمليات الإنقاذ المضنية، وقد تم فعلاً إنقاذ معبد أبي سنبل ومعبد فيلة بشكل كامل وأصبحت صورهما تتصدّر الصحف العالمية.
وقد ساهمت الحكومة الإسبانية بنسبة كبيرة جداً في حملة الإنقاذ، إذ كانت أولى المتبرعين وأكثر الذين قاموا بعمل مضن بالأعمال التي تمت من أجل إجلاء بعض المواقع الأثرية بشكل كامل ثم إعادتها بعد بناء السد. وعرفاناً بجميل الحكومة الإسبانية بأيديها البيضاء والحفاظ على الآثار المصرية من الغرق، قدم الرئيس جمال عبد الناصر معبد دابود هدية تكريمية لها، وفوراً بدأت الحكومة الإسبانية بتفكيك أحجار المعبد ووضعها في صناديق وترقيمها ثم حملها عن طريق المراكب التي تسير في النيل وصولاً إلى ميناء الإسكندرية. ومن ثم عن طريق البواخر إلى ميناء فالنسيا الإسباني لتستقر بعدها في منتصف مدريد بالقرب من القصر الملكي وبحديقة هي من أجمل الحدائق وليتم افتتاح المعبد في عام 1972 أمام الزائرين.
المعبد يبدأ برصيف يواجهه طريق مواكب طويل يمر من خلال ثلاث بوابات حجرية ويقود إلى فناء مفتوح، وينتهي المعبد بقدس الأقداس الذي يحوي حجراً من الغرانيت الوردي، موضحاً أن صحن المعبد قائم على أربعة أعمدة، وخلفه يوجد الهيكل الذي أقيم للإله آمون.
وهكذا يستطيع الإسباني وكل السياح في إسبانيا زيارة مصر وزيارة التاريخ دون الذهاب إلى تلك الصحراء. لكن هذا المعبد ما زال يعيش منفياً إلى خارج بلاده لا يفهم لغة زواره ولا يستطيع أن يفهم بأي حق استؤصل من مكانه وزرع هنا في بلاد لا يعرف عنها ولا يجد ماضيه فيها.
ولم يكن معبد دابود هو المعبد الوحيد الذي أهدته مصر للدول المشاركة في حملة اليونسكو، فقد أهدت مصر ما يقرب من 5 معابد أخرى؛ هي: (معبد طافا القائم في ليدن في هولندا، ومعبد دندور في متحف المتروبوليتان بالولايات المتحدة الأميركية، ومعبد الليسيه في تورينو بإيطاليا، والبوابة البطلمية من معبد كلابشة في الجزء المصري في متحف برلين بألمانيا).
المصدر : العربي الجديد