الجمعة , مارس 29 2024
أخبار عاجلة
الرئيسية / منوعات / رحلة في عالم المصارعة النوبية

رحلة في عالم المصارعة النوبية

يقول الباقر بابكر الملقب بـ”سِنكِيري” إن رياضة المصارعة تعني له كل شيء، فهي ليست جزءاً من حياته فقط إنما هي كل حياته. بابكر، أو كما يحب أن يطلق عليه “سنكيري” الذي يعني صانع الصفيح، كان خارجاً لتوه من حلبة المصارعة، بعد أن هزم خصمه في الجولة الأولى، تعلو وجهه ابتسامة النصر.

يضيف أن عليه الاحتفال، “ففي كل انتصار هناك هزيمة مؤجلة، وهو إحساس مؤلم وحار”. كونه مصارعاً وابن مصارع، ورث بابكر اللقب من والده، فهو ينحدر من بيت يمارس “الصُراع” و”هو أمر متعارف عليه عند قبائل جبال النوبة حيث يتبع الابن خطى أبيه، ويبدأ التمرن على اللعبة منذ الصغر”، يوضح المصارع الشاب.

Nuba-wrestlers_Rita-Willaert_Flickr

بابكر، الذي بدأ ممارسة اللعبة قبل خمس سنوات، بلغ اليوم العشرين من عمره وهو يتمتع بجسم قوي وعضلات مفتولة، تملأ جسده الرسوم والخطوط الملونة. وهو يملك صوتاً جهورياً قوياً كالثور، وهذا أمر يستحسنه أهل النوبة في المصارع. ودّعنا بابكر وهو يستعد للجولة الثانية، وسط تشجيع من جماهير فريقه، الذين كانوا يلصقون على جبهته المكسوة عرقاً، النقود من فئة العشرة جنيهات والعشرين أو الخمسين، كل حسب استطاعته، تعبيراً عن فرحهم به وتشجيعاً له، وهو أمر متعارف عليه في “المصارعة النوبية”، ويعتبر بمثابة إرث اجتماعي.

تسمى رياضة المصارعة عند أهالي جبال  النوبة بـ”الصُراع”، وهو نوع من أنواع الفنون القتالية يقوم على احترام الخصم وتقديره. وهي من أهم وأشهر الرياضات التي يمارسونها، بالإضافة إلى أنها نشاط اجتماعي شعبي، كما تعتبر جزءاً أصيلاً من تراث وثقافة المنطقة. ترتبط ممارستها بطقوس محددة تعرف بـ”السبر”، وهو طقس احتفالي يتصل بالمناسبات المتعلقة بدورة حياتهم، التي لا تكتمل حسب مفاهيمهم المتوارثة إلا بها. والثابت أن الصراع يبدأ مع شهور الحصاد، أي من شهر أغسطس حتى شهر ديسمبر، ويعتبر الحصاد بمنزلة عيد عند أهالي الجبال، تقام له الاحتفالات، من ضمنها المصارعة، التي ينظر إليها كاحتفال قائم بذاته. فللمصارعة عند أهالي النوبة معان ودلالات اجتماعية وثقافية واقتصادية وفنية. إذ يقدم المصارعون عرضاً يشمل الرقص والغناء، ويتباهى المصارعون بخفة تحركهم ورشاقتهم، ويشترك معهم المشجعون في أداء الأغاني الحماسية.

أقوال جاهزة

شاركغردالمصارعة النوبية، الشبيهة بمصارعة “السومو” اليابانية

شاركغرديدخل المصارع وسط تشجيع من جماهير فريقه، الذين يلصقون على جبهته المكسوة عرقاً النقود من فئة العشرة جنيهات أو الخمسين

تشبه المصارعة النوبية المصارعة اليابانية “السومو”، وإن اختلفت في بعض التفاصيل. يرتدي المصارع سروالاً قصيراً، وغالباً ما يكون الجزء العلوي عارياً ويتم دهنه بالألوان. وتعتمد هذه المصارعة على الخفة والرشاقة والخداع. تستخدم فيها الأيدي، إذ يقف المتصارعان في حلبة دائرية الشكل، ويسعى كل خصم لإيقاع الآخر أرضاً لتتم له الغلبة. ويتفاخر بعض المصارعين بعدم لمس أجسادهم الأرض قط. ويتخذ المصارعون ألقاباً تعبر عن قوتهم، كثيراً ما تكون أسماء قادة، مثل أوباما ومنقستو رئيس أثيوبيا الأسبق، أو قيادات الحركات المسلحة السودانية مثل كاربينو. ومن المفارقات أن نجد اسم الدعم السريع، وهي مليشيات موالية للحكومة السودانية، وأبو طيرة، وهو اسم يطلق على عربة دفع رباعي تستخدم في مناطق جنوب كردفان ودارفور لأغراض أمنية وعسكرية.

طقوس المصارعة النوبية

تخلتف طقوس المصارعة النوبية بين قبيلة وأخرى، فالنوبيون ليسوا قبيلة واحدة، بل بضع قبائل تعيش في منطقة جنوب كردفان، الإقليم الغربي للسودان. وداخل القبيلة الواحدة  يعهد بالمشاركة في المصارعة إلى بيوت محددة، فهو أمر شبه مقدس لا يستطيع أي فرد القيام به. هذا الطقس لم تشهده مدينة الخرطوم في تاريخها، إذ انتقلت إليها هذه الرياضة منذ سبعينيات القرن الماضي، كغيرها من الطقوس والعادات والتقاليد التي جاء بها أهالي جبال النوبة بعد نزوحهم إلى العاصمة هرباً من المعارك الدائرة في منطقتهم.

متغيرات كثيرة اجتماعية وبيئية تتعلق بالمدينة وحياتها أثّرت في حياة أهالي النوبة، وجعلت من الصعب إقامة جميع طقوسهم كما كانت تقام في موطنهم. وتغيرت طرق كسبهم العيش، فهم أساساً يعيشون على الزراعة والرعي، خلافاً للكسب في العاصمة، حيث كان لا بد لهم من احتراف مهن أخرى، لكن فنهم بقي حاضراً في المصارعة كالغناء والرقص.

Sari-Ahmad-Awad2تصوير ساري أحمد عوض

وعلى الرغم من اندماجهم في مجتمع العاصمة وطبيعة حياتها، حافظ النوبيون على ثقافتهم، ومارسوا “الصٌراع” كتأكيد على تمسّكهم بتلك الثقافة وبهويتهم. بدايةً كان الأمر ترفيهاً ليتحول لاحقاً إلى تنظيم تحت إشراف الدولة.

Sari-Ahmad-Awad3تصوير ساري أحمد عوض

 فأقيمت أولى المباريات في سبعينيات القرن الماضي، في أطراف العاصمة، كما قال عضو اتحاد المصارعة السودانية آدم أوسطي لرصيف 22. وأضاف: “ظلت اللعبة خالصة لأبناء الجبال حتى الثمانينيات، إذ أضيفت حينذاك إلى قائمة الألعاب السودانية، وتبنتها الدولة وسعت إلى تنظيمها، وإنشاء أندية واتحاد لها في العام 2001”. يعتبر أوسطي هذا الأمر “تحولاً نحو القومية، برغم أن غالبية الممارسين للعبة من منطقة جنوب كردفان”.

Sari-Ahmad-Awadتصوير ساري أحمد عوض

خرجت اللعبة إذاً من نطاق القبائل ورعايتها، لتدخل إلى الأندية الرياضية، وبدل أن يصبح المصارع محسوباً على قبيلة محددة، أصبح منتسباً إلى ناد رياضي، “وهذا ما أعطى اللعبة دفعة إلى الأمام”، بحسب أوسطي، ونشأ جيل من المصارعين في العاصمة يخضعون لشروط وقواعد الاتحاد ويمثلون السودان في المنافسات الخارجية.

لكن يبقى أهالي النوبة أساس هذه اللعبة أو الرياضة وأصحابها، فهم لم يكتفوا بوضع بصمتهم الثقافية فقط، بل طوروها. واليوم يشارك العديد من الأجانب فيها،  كما أصبحت مشاركة اليابانيين في المباريات أمراً مألوفاً ومحبباً، بعد أن شارك الديبلوماسي الياباني ياسوهيرو موروتاتسو في إحدى المباريات.

المصدر : الرصيف

WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com