الأربعاء , أبريل 24 2024
أخبار عاجلة
الرئيسية / تراث و مجتمع / القضية النوبية : طبيعتها وحلولها وتقييم موضوعي لعلاقة عبد الناصر بها

القضية النوبية : طبيعتها وحلولها وتقييم موضوعي لعلاقة عبد الناصر بها

كتب : د. صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه بجامعه الخرطوم
أولا: طبيعة القضية النوبية :
وحده القضية وتعدد المشاكل : إن القضية النوبيه تتضمن جمله من المشاكل، التي طرحها الواقع الاجتماعي النوبى المتنوع ، لفترة زمنيه طويلة ، امتدت لأكثر من قرن، من هذه المشاكل مشكله تحقيق تقدم النمو الحضاري ” السياسي ، الاقتصادي ، الاجتماعي…”، ومشكله الحفاظ على الهوية الحضارية الخاصة،  وتنميتها وتطويرها ، ومشكله توفير الخدمات ، ومشكله تمثيل النوبيين فى وطنهم الكبير ، ومشكله التهميش ، ومشكله التهجير… بناء على هذا لا يمكن اختزال القضية النوبيه في مشكله واحده ، وفى واقع مكاني وزماني محدد .
تفاعل الذاتي والموضوعي : إن القضية النوبيه هي محصله تفاعل عوامل ذاتيه( داخليه ) وموضوعيه (خارجية ) ، وبالتالي يجب استبعاد نظريه المؤامرة، التي تركز على العوامل الخارجية لتلغى دور العوامل الداخلية .
أساليب التفكير السليمة : إن الحل الصحيح للقضية النوبية، يتحقق سلبا  بتجاوز أنماط التفكير الخرافي والاسطورى،   كما يتحقق إيجابا بالالتزام بأنماط التفكير العلمي والعقلاني ، وتجاوز مرحله رد الفعل الذاتي العاطفي ( الانفعالي) ، إلى مرحله الفعل الموضوعي(العقلاني).
طبيعتها وحلولها وتقييم موضوعي لعلاقة عبد الناصر
ثانيا: عبد الناصر والقضيه النوبيه:تقييم موضوعى:
التقييم السليم: إن التقييم السليم للعلاقة بين الزعيم جمال عبد الناصر (رحمه الله تعالى ) والقضية النوبية، يتحقق من خلال تجاوز التقييم الذاتي (العاطفي)، والالتزام بالتقييم الموضوعي ( العلمي العقلاني)، والذي يستند إلى الحقائق الموضوعية التاريخية، ومن هذه الحقائق :
القضية النوبية سابقة على قيام ثوره يوليو: إن القضية النوبية بمشاكلها المتعددة، ظهرت قبل عهد عبد الناصر بعد قيام ثوره 23 يوليو 1952، كما أنها ظلت مطروحة بعد وفاته عام 1970، لذا لا يجوز اختزال القضية في مشكله تهجير النوبيين، والتي تفاقمت – ولم توجد لأول مره – نتيجة لبناء عبد الناصر للسد العالي.
فكره بناء السد العالي سابقه على ثور يوليو: كما أن فكره بناء السد العالي سابقه على قيام ثوره يوليو، وأن عبد الناصر قد قام بتنفيذها فقط، وكحل ضروري لمشكله المياه في مصر، المتمثلة في تذبذب منسوب مياه النيل بين ارتفاع منسوبها، وما يترتب عليه من فيضانات، وانخفاض منسوبه، وما يترتب عليه من قحط ومجاعه، وهى مشكله لا زمت تاريخ مصر عبر قرون.
مشكله تهجير النوبيين بدأت قبل عهد عبد الناصر: كما أن مشكله تهجير النوبة لم تظهر في عهد عبد الناصر، بل ظهرت قبل عهده، حيث كانت بداية تهجير النوبة مع بناء خزان أسوان عام‏1902‏،الذي ارتفع معه منسوب المياه خلف الخزان،ليغرق عشر قري نوبية وقام أهالي هذه القرى بالهجرة طواعية إلي قري في البر الغربي وإلي مختلف المحافظات المصرية‏,‏وبعد ذلك حدثت التعلية الأولي للخزان عام 1912 ، وارتفع منسوبا لمياه وأغرق ثماني قري أخري‏,‏وبعد ذلك جاءت التعلية الثانية للخزان عام‏1933‏وأغرقت معها عشر قري أخري، وفي الخمسينيات بدأت الدراسات لإقامة السد العالي، وتم ترحيل أهالي المنطقة إلى هضبة كوم أمبو خلف السد العالي 1963 .
لا تناقض بين علاقتي الانتماء العربية والإفريقية: كما أن تبنى جمال عبد الناصر للقومية العربية لم يلزم منه اتخاذه موقف سلبي من القضية النوبية- على المستوى الأيديولوجى – لأنه تبنى القومية العربية،على وجه يجعل العلاقة بين علاقة الانتماء العربية كعلاقة انتماء قومية ذات مضمون لساني – حضاري، وعلاقة الانتماء الأفريقية كعلاقة انتماء جغرافيه قارية،علاقة تكامل وليست علاقة تناقض، لذا لم يحول تبنيه للقومية العربية من اتخاذ موقف ايجابي من علاقة الانتماء الأفريقية على المستويين النظري والعملي، فعلى المستوى الأول( النظري) نجد أن وثائق التجربة الناصرية أقرت بعلاقة الانتماء الأفريقية للشعوب العربية التي تعيش في قارة إفريقيا، ورد في الميثاق ( إن شعبنا يعيش على الباب الشمالي الشرقي لإفريقيا المناضلة وهو لا يستطيع أن يعيش فى عزلة عن تطورها السياسي والاجتماعي والاقتصادي)، رفضت هذه الوثائق التمييز العنصري الذي يضمر اتخاذ موقف سلبي من علاقة الانتماء الافريقيه، ورد في ميثاق العمل الوطني ( إن إصرار شعبنا على مقاومة التميز العنصري هو إدراك سليم للمغزى الحقيقي لسياسة التمييز العنصري..إن الاستعمار في واقع أمره هو سيطرة تتعرض لها الشعوب من الأجنبي بقصد تمكينه من استغلال ثرواتها وجهدها..وليس التمييز العنصري إلا لونًا من ألوان استغلال ثروات الشعوب وجهدها..فإن التمييز بين الناس على أساس اللون هو تمهيد للتفرقة بين قيمة جهودهم..). أما على المستوى الثاني (العملي) فقد ساند عبد الناصر كل حركات التحرير الإفريقية في شرق القارة(الصومال وكينيا وأوغندا وتنزانيا)،وغربها(غانا وغينيا ونيجريا)،ووسطها(الكونغو”زائير”)، وجنوبها(روديسيا وانجولا وموزنبيق). هذا فضلا عن أن اتخاذ موقف ايجابي من القضية النوبية لا يعنى اعتبار ان الانتماء الأفريقية هي علاقة الانتماء الوحيدة للشخصية الحضارية النوبية،وإنكار علاقة الانتماء العربية لهذه الشخصية الحضارية.
موقف عبد الناصر من القضية النوبية:
أولا: المستوى النظري: يمكن استخلاص موقف جمال عبد الناصر من القضية النوبية من الخطاب الذي ألقاه في أهالي النوبة ١١/١/١٩٦٠:
ا/ إقرار حق المواطنة للنوبيين: وما يترتب عليه من مساواة بينهم وبين باقي المواطنين فى الحقوق والواجبات، حيث يقول ( … أرجو في نفس الوقت أن يشعر كل فرد منكم أننا نعامل أبناء هذه الأمة معاملة واحدة مبنية على الحق والحرية والمساواة …)
ب/الإقرار بالآثار السالبة التي ستترتب على بناء السد العالي والعمل على معالجتها: حيث يقول (.. وأحب أن أقول لكم: إننا ونحن نبحث السد العالي إنما نبحث أيضاً في خيركم وفى مستقبلكم، كما نبحث في النتائج التي ستترتب على السد العالي… )
ج/ الإقرار بوجود القضية النوبية : ومن مظاهرها الانعزال وتشتت أبناء النوبة .. مع العمل على حلها، حيث يقول ( أيها الإخوة المواطنون:ونحن نشعر أن الخير الذي سيعم على أبناء النوبة سيكون الخير الكثير؛ لأنه سيجمع شمل أبناء النوبة جميعاً على أساس من الأسس الصحيحة لبناء مجتمع قوى سليم؛ وبهذا تنتفي الشكوى التي كنتم تشعرون بها طوال السنين الماضية.. شكوى الانعزال، ثم شكوى تفرقة العائلة الواحدة.. أفرادها يعملون فى الشمال وبعضها يعملون في الجنوب..)
د/الإقرار بالشخصية الحضارية النوبية الخاصة ، والإقرار بحق عوده النوبيين إلى مناطقهم الاصليه : حيث يقول (حينما نبحث السد العالي الذي ستغرق مياهه بعض أجزاء أو أجزاء كبيرة من بلادكم، فإننا ننظر إلى مستقبلكم أيضاً لا على أساس تشتيت أبناء النوبة فى كل مكان؛ لأن لكم التاريخ الطويل.. التاريخ المجيد الذي تشهد عليه هذه الآثار التي سنزورها اليوم، والتي عشتم بقربها آلاف السنين، ولكنا سنعمل أيضاً على جمع شملكم جميعاً، كما كان هذا الشمل يجتمع فى هذه المنطقة طوال السنين الماضية أو على مر آلاف السنين)
ه/ الإقرار بضرورة حل المشاكل التي يطرحها الواقع الاجتماعي النوبي: والتي تشكل معا القضية النوبية، حيث يقول(… وستكون لجنة الاتحاد القومي هنا دائماً على اتصال بالاتحاد القومي؛ حتى يمكن أن نرى مشاكلكم دائماً أولاً بأول. وحتى نستطيع أن نحل هذه المشاكل دائماً أول بأول.)
ثانيا: المستوى التطبيقي: وعلى المستوى التطبيقي حاول عبد الناصر معالجه الآثار ألسالبة التي ترتبت على بناء السد العالي وتهجير النوبيين، ولكن لم تتم معالجه جميع هذه الآثار السالبة نتيجة لعوامل متعددة منها الحروب مع إسرائيل(النكسة 1967، حرب الاستنزاف)، ودعم حركات التحرر العربي والافريقى ،والبيروقراطية ..
عدم التناقض بين الإقرار بوجود أوجه قصور في معالجه القضية النوبية والإقرار بزعامة عبد الناصر: بناءا عل ما سبق فانه لا تناقض بين الإقرار بمكانه عبد الناصر كزعيم قومي، والإقرار بوجود أوجه قصور في معالجه الدولة للقضية النوبية – والملفات المتصلة بها كالتعويضات وحق العودة –  في عهد عبد الناصر ، ، لأن الإقرار بزعامة عبد الناصر لا يلزم منه بالضرورة، اتخاذ موقف القبول المطلق للتجربة الناصرية، والقائم على إنكار وجود اى سلبيات لها، فالموقف الصحيح من التجربة الناصرية – والذي لا يتناقض مع الإقرار بزعامة عبد الناصر – هو الموقف النقدي ، الذي يقر بايجابيات وسلبيات التجربة، ومن هذه السلبيات البيروقراطية ، التي عاقت تنفيذ الكثير من المعالجات التي وجه عبد الناصر بتنفيذها، لدرء الآثار السالبة لبناء السد العالي..
القضية النوبية بعد وفاه عبد الناصر: لم تحل القضية النوبية بعد وفاه عبد الناصر عام 1970، بل تفاقمت نتيجة لعوامل متعددة منها: حرب أكتوبر 1973، وارتداد الرئيس أنور السادات عن كثير من الانجازات الايجابية لثوره يوليو، ومنها تبنى نظام اقتصادي يقوم على السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية والتخطيط الاقتصادي – وكلاهما شرط اساسى لتحقيق التقدم الاقتصادي عامه، وحل القضية النوبية خاصة – وتبنيه النظام الاقتصادي الراسمالى- تحت شعار الانفتاح الاقتصادي، والذي يجعل للقطاع الخاص- الذي يسعى لتحقيق الربح – الدور القائد في اداره الاقتصاد الوطني – بدلا من القطاع العام- وما يترتب عليه من إعطاء الاولويه للمستثمرين على حساب المواطنين، وهو ما كان له أثر سلبي على مشكله توطين النوبيين خاصة والقضية النوبية عامة.
خطوات ايجابيه : ومن أهم الخطوات الايجابية تجاه حل القضية النوبية  في مصر–  على المستوى الدستوري –  استحداث المادة  المخصصة عن تنمية النوبة وسيناء ومطروح المستحدثة ، والتي أقرتها لجنة الحقوق والحريات، المنبثقة عن لجنة الخمسين لتعديل الدستور المصري للعام 2013 ، ، والتي تتضمن الإقرار بحق النوبيين في العودة إلى مناطقهم الاصليه ودعم وحماية الثقافة النوبية ، حيث تنص على ( تلتزم الدولة بتنمية المناطق الحدودية وخاصةً سيناء والنوبة ومطروح، وبمشاركة مواطنيها في وضع أهداف وخطط ومشروعات التنمية الخاصة بمناطقهم ، وبما لا يؤثر سلبًا على ثقافتهم ونمط حياتهم ، وللمواطن في هذه المناطق أولوية الاستفادة منها، كما تعمل الدولة على إعادة من يرغب من النوبيين إلى مناطقهم الأصلية ويدعم الثقافات المحلية وحمايتهم بوصفهم جزء أصيل من الثقافة الوطنية)، حيث لقيت هذه المادة ترحيبًا من أهل النوبة (حريتنا /  فاطمة رشاد) ، وكان ممثلي النوبة  قد اقترحوا أربع مواد لإضافتها بالدستور وهي إلغاء كافة أنواع التمييز، و إضافة بند ينص على أن مصر دولة متعددة الثقافات واللغات ، و التزام الدولة بإعادة توطين أهالي النوبة بأراضيهم التي تم تهجيرهم منها، والتزامها بتطبيق كافة المواثيق والعهود الدولية الموقعة عليها، حيث أنها تضمن للنوبيين حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمدنية.
ثالثا: مقترحات حل القضية النوبية :
رفض محاولات إلغاء الشخصية الحضارية النوبية : رفض كافه محاولات  إلغاء الشخصية الحضارية النوبية كشخصيه حضاريه خاصة ، تحدها ولا تلغيها شخصيات حضاريه عامه (وطنيه وقوميه ودينيه..).
رفض الوحدة المطلقة : رفض الوحدة المطلقة في مجالات الهوية او المجال السياسي او الاقتصادي أو الاجتماعي أو القانوني أو الثقافي … والتي مضمونها انفراد جماعات قبلية او شعوبيه معينه بالسلطة و الثروة … دون باقي الجماعات القبلية أو الشعوبية.
رفض الفصل والانفصال : رفض كافه محاولات فصل الشخصية الحضارية النوبية كشخصيه حضاريه خاصة ،عن غيرها من الشخصيات الحضارية العامة (الوطنية والقومية والدينية ..)، ورفض تحويلها  إلى كل قائم بذاته ومستقل عن غيره ، وبالتالي رفض كافه أشكال الدعوة إلى انفصال المناطق النوبية عن الوطن ، بالعمل على تغيير الظروف السلبية التي تظهر هذه الدعوات الانفصالية كرد فعل عليها.
الانتقال من التناقض إلى التكامل : التوافق على صيغ دستوريه ، سياسيه، قانونيه ، تجعل  العلاقة بين الوطن و  المناطق النوبية علاقة تحديد وتكامل وليست علاقة إلغاء وتناقض .
الحفاظ على الشخصية الحضارية النوبية : السعي للحفاظ على الشخصية الحضارية النوبية كشخصيه حضاريه خاصة ، والعمل على تنميتها وتطويرها ، والجمع بين الثقافة واللغة النوبية كثقافة ولغة شعوبيه خاصة ، و الثقافة واللغة العربية كثقافة ولغة قوميه مشتركه،…
تفعيل العمل الطوعي : تفعيل العمل الشعبي (الاهلى ) الطوعي لتطوير المناطق النوبية، وعدم إهمال المجالات الاجتماعية والثقافية  والاقتصادية …
الجمع بين الوحدة والتعدد :  الالتزام بالعلاقة الجدلية بين الوحدة والتعدد في مجالات الهوية،  أو المجال السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي  أو القانوني أو الثقافي…
رفض التمييز السلبي : مناهضه كافه أشكال التمييز السلبي بسبب الاختلاف في اللون أو العرق أو اللغة أو الدين أو الثقافة …
الالتزام بالتمييز الايجابي :  الالتزام بسياسة التمييز الايجابي  تجاه الأقليات ، والتي تتضمن  اتخاذ جمله من الإجراءات التفضيلية ، التي تعطى أفراد هذه الأقليات الاولويه في المجالات المختلفة للحياة العامة كالتعليم وتوظيف والتمثيل التشريعي.. بهدف إلغاء التمييز (السلبي) ، وتحقيق المساواة (الفعلية) بينها وبين باقي فئات المجتمع .
الوحدة النوبية : التأكيد على أن الوحدة النوبية لا يمكن أن تتحقق من خلال نزوع انفصالي ( يدعو إلى فصل منطقتي النوبة عن السودان ومصر )، بل تتحقق من خلال نوع وحدوي ( يدعو إلى وحده وادي النيل – بشكل علمي تدريجي مؤسسي –  باعتبار أن المنطقة النوبية هي حلقه الربط بين السودان ومصر),
العمل على حل مشاكل المناطق النوبية :العمل على حل المشاكل  الاقتصادية والسياسية والامنيه  والاجتماعية …للمناطق النوبية ، مع الالتزام بأساليب العمل السياسي السلمي ، ونبذ العنف ، وقصر استخدام القوه على حاله الدفاع على النفس ، ورفض توظيف هذه المشاكل بما يخدم الأهداف الصهيونية والامبريالية في المنطقة ، أو لتبرير التدخل الخارجي .
حل مشكله التهميش : الإقرار بمشكله التهميش ، باعتبارها مشكله ذات أبعاد متعددة ، و محصله تراكم تاريخي طويل، والسعي لحلها بالعمل المشترك والتدريجي.

 

المصدر : سودانيل

WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com